(الجزء الاول)
هذا الصباح ...وهذه أكواخ القرية المتباعدة...يتصاعد من بعضها الدخان...والصمت
المطبق الذي لايكسره سوى ثغاء خروف هنا أونباح كلب هناك...
وللناس هنا بساطتهم ,وأحزانهم...كـان بعضهم يقف أمام كـوخه البسيط يلتحف بطانية من
شدة البرد,لم يكـونوا يتبادلون التحية أو الكلام كون المسافة بين كوخ وكوخ كانت
كبيرة,غيرأن أعين هذا كانت تترامى لتعاين ذاك أمام كوخه,يشعل نارا,أويقف كهيكل جامد
من البرد,يتأمل القرية بعينيه...
قرية (خاهزادشي) هذه...كل مافيها-وليس فيها كثير أشياء-يوحي بأنها عاشت المأساة
قريبا,وأنها تحاول الآن أن تنسى...أن تتنفس,لكن هاجس الخوف يبقى يقتل في قلبها
الأمل,ويكسر فيه محاولة الحياة مرة أخرى...
في الجبال القريبة كان الثلج سيد القمم...الثلج أول مستكشف يصل الجبال النائية في
المناطق الباردة,ويغرز راياته البيضاء فيها...وبعد ملايين السنين يظهر شخص أو
جمع...يجر أقدامه في السفوح تحت العاصفة...يصل القمة منهكا,يركز فيها رايته...ويسجل
في مذكراته أنه أول من وصل هناك...غير أن الثلج كان الأسبق...
وللثلج هنا علاقة وطيدة بساكني هذه الأكواخ...فهو شمسهم لو كانوا من أهل
الصحراء...وموجهم لوكانوا من سكان السواحل...
والقمم تبقى قمما...وكانت تبدو غريبة...غامضة...كأنما تخفي أسرارا ضبابية,يؤكدها
البعض حد اليقين,وينفيها البعض حد العدم...وبين اليقين والعدم تنمو الأسطورة
دائما...سرابا ساحرا..
فما الذي تخفيه قسوة تلك القمم مما يبيح للدخلاء بين الحين والآخر قصفها وإمطارها
بالنار...؟!!
هذه القمم كإنسان المنطقة,غير أنها تلتحف الثلج,وبيدها تمسك ذلك الرداء تحت
ذقنها...وتطل على القرية صامتة دون أن تشي بما تخفيه من أسرار...وهكذا هو الإنسان
هنا...
اليكم النصف الثاني
وتأملت شعره, كان أشعث متسخا...وتذكرت الأيام الخوالي...حين كان يقف أمام المرآة
يمشطه, وكان أحيانا يطيل تأمل خصلاته معجبا به, لدرجة أن أباه كان يزجره أحيانا,
وهو يقول:
هذا من فعل النساء يابني...فلا تمكث طويلا أمام المرآة. وتتذكر البنت أنها كانت
تقول لأبيها:
-وهل النساء فقط اللواتي يقفن أمام المرآة طويلا؟
فيجيبها:
ياابنتي...إذا رأيت ذبابة فوق المرآة فاعلمي أنها أنثى...وكانت بعد ذلك تضحك وهي
ترى ذبابة فوق المرآة وهي متأكدة من أنها إما أنثى أو ذكر مدلل معجب بوسامته مثل
أخيها...
-عامر هل آتيك بطعام؟ هه؟ هل أنت جائع؟
وهز رأسه في انكسار دون أن يرفع بصره عن النار...وجرت الصغيرة, وقامت معها الجدة
يعدان له بعض ما يذهب جوعه ويشيع الحرارة في جسده, ولم يكن في الكوخ غير قليل من
الأرز المتبقي من وجبة اليوم السابق.
امتدت يد المجنون إلى الإناء تأخذ منه لقمات متتالية..
وبكت الجدة وهي تتأمل ذلك...أما أخته فذهبت تحضر بعض الماء تسخنه على النار لتغسل
له رأسه وأطرافه...
ومسحت اليد النحيفة بارزة العروق الإناء ثم وضعته جانبا...وسألته جدته:
-هل شبعت ياحبيبي؟
ولم يجب...غير أنه لم يكن عندها ماتقدمه له آنذاك, لذلك قالت: عندنا بعض
البيض...سنسلقه للعشاء...وهز الشاب رأسه...كان في الخامسة عشر من العمر...يحفظ
القرآن الكريم...والكثير من المتون...وينظم الشعر كأبيه...
ووضعت جدته يدها على رأسه, وجذبته إليها, فتوسد حجرها قرب النار...وكانت تمرر يدها
على كفه بلطف وحنان, تلامس فيه أباه... ابنها الغائب...ذلك الذي يمزقها الشوق
إليه...
وأحست بغفوة المجنون الطيب فقامت برفق...جلبت وسادة...وضعتها تحت رأسه, ثم قصدت
الصندوق الخشبي...أخرجت منه ثوبا أزرق بلون البحر...قربته من وجهها...شمته ثم ضمته
إلى صدرها...وعادت إلى مكانها الأول في الزاوية...وضعت الثوب في حجرها...وعصرت
عينيها, فتحدرت منهما حبات ماء تعلقت برموشها, وتنهدت وهي تقول:
-سليمان...ولم تزد...
ولعل حفيدتها كانت قد سمعتها وهي تدلف من خلال الباب حاملة إناء كبيرا مملوءا ماء
وهي تقول:
-عامر...ها قد...
ونهرتها جدتها:
اس...س...س...س...إنه نائم...وتوقفت البنت كأن الجدة قد روعتها...ثم عادت تخطو
كالمرعوبة برفق نحو النار لئلا يفيق أخوها الذي من الواضح أنه لم ينم من ليال...
وفعلا فما كان من الممكن أن ينام عامر في عراء وبرد خرابات تلك البيوت المهدمة
القريبة من المقبرة والتي يؤمها كلما هزه الشوق لأمه وأخويه ليقضي أياما هناك يحدث
شاهدات قبورهم, وينام قريبا من قبر أمه محتضنا إياه بحثا عن حنانها, خاصة حينما
يعصره الحزن والألم...أو يؤذيه الآخرون...ويرميه الصبيان بالحجارة وهم يتصايحون
حوله في مرح:
المجنون...المجنون...المجنون... .
وعلى قبرها وقبري أخويه كان يريق الكثير من دموعه
في ظلام وبرد الليالي...
وضعت البنت قدر الماء على الأثافي فوق النار ثم عادت إلى جدتها تسألها:
جدتي...هذا ثوب أبي أليس كذلك؟
قالت الجدة وهي ترفع بصرها المتهالك نحو حفيدتها:
نعم ياعائشة ثوب أبيك.
-ومتى يأتي أبي ياجدتي؟
قريبا إن شاء الله يابنيتي.
جدتي ماذا قال لك في الرسالة التي بعث بها إليك منذ يومين؟
-قال إنه بخير, وإنه سيعود قريبا...وإنه يوصيكم بالصبر والمحافظة على الصلاة وقراءة
القرآن...ويوصيك أن تهتمي بعامر...
جدتي سجن كوبا بعيد؟
بعيد جدا ياابنتي.
وماذا فعل أبي ليأخذوه؟
لاشيء..لاشيء يا صغيرتي. تعالي تعالي إلي...
واقتربت الصغيرة من جدتها فأخذتها إليها وضمت وجهها
الصغير إلى صدرها الذي تملأه الحرائق والدخان...تعطيها قليلا من الحنان تخرجها به
من جليد الأسئلة المريرة...
واستكانت البنت في حضن جدتها كعصفورة مبللة...
ـــــــــــــــــــــــــ
هذا سجن غوانتانامو...السيرك
الذي أقامته العنجهية هنا...على أرض كوبية مسلوبة...بأناس سلبتهم هم أيضا
حريتهم...وفي الأقفاص الحديدية بشر اقتيدوا من منازلهم,لاحيوانات مفترسة اصطيدت في
جبال قندهار وتورا بورا وجيء بها لتروض هنا...كان المكان خلية نحل...تكبيرا وحمدا
وتهليلا...وسليمان هذا القابع المستند إلى سلك قفصه...المغمض العينين, المردد:الله
أكبر الله أكبر لا إله إلا الله...الله أكبر الله أكبر ولله الحمد...
أحد الحراس يلقي سمعه مذهولا...لقد هزته عقيدة هؤلاء منذ أن جيء بهم إلى هنا...لقد
كان طوال شهور ماضية يحاول أن يرى منهم مايجعله يصدق مسؤولية أن هؤلاء
أشرار...سيئون...غير أنه كل يوم يفاجأ بالعكس...كانت نفسه تتوق إلى معرفة ما يقف
وراء هذه الأخلاق والثبات...كان يرى النتيجة ويطمح إلى معرفة مقدماتها...وكيف
تفاعلت لتعطي كل هذا...ولذلك قرر أن يعرف الإسلام...وصار من زوار مواقع
الإنترنت...وشرح الله صدره وأسلم...جون...هذا اسمه...كانت شفتاه تتحركان مع شفاه
إخوته المسجونين...:
الله أكبر وحده, صدق وعده, ونصر عبده, وأعز جنده, وهزم الأحزاب وحده, لاإله إلا
الله ولا نعبد ربا سواه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون...
أحس بعظمة الله الذي تتغير الأحوال ولا يتغير الاعتقاد به, ومن فرج إلى شدة تبقى
العبادة مصروفة له وحده...وتمنى أن يكون واحدا من هؤلاء المسجونين...تمنى أن يخرج
كل ليلة بعد منتصف الليل إلى حصص العذاب المنتظمة كما يخرجون, وأن يرجع إلى زنزانته
بمائة جرح نازف, يحمله بينهما جنديان إلى قفصه...
لقد قطع المسافة بين الباطل والحق, لكنه لم يقطع المسافة الأخرى بين أهل الباطل
وأهل الحق, لذلك كان يعيش التناقض...كان يقول في نفسه...حق هؤلاء باطل عند
أولئك...وحق أولئك باطل عند هؤلاء...فما الذي يفصل الأمر بينهما...أهو القوة؟ إن
القوة تجعل الضعيف يسلم بقوة خصمه, لا بحقه...الفاصل هو الحق ذاته...الحق الذي من
عند الله لا من عند البشر...ولئن كانت الأيدي الآثمة طوال قرون قد تلاعبت بما في
الكتب المقدسة الأخرى, فإن القرآن بقي محفوظا...وهو الأخير...وإذا كانت كل الكتب من
عند الله...فإن الأولى هو اتّباع الكتاب الأخير منها, ففيه خلاصة مامرّ
وزيادة...ولئن كان الناس اليوم زاهدين فيه, فقد كانوا في الأمس محكومين برحمته
ونوره وعزته, حين ملأ الدنيا في عهد النبي محمد صلى عليه وسلم, لذلك لا يهمّ هوانه
اليوم...إذ أن الذهب يصعد ثمنه وينزل بين يوم وآخر, غير أن قيمته هي هي...لا تنزل
مع نزول ثمنه...بل الذي ينزل هو اهتمام الناس به... كان مسؤول الدورية, يقف أمام
جون, يكسر عليه تفكيره وذهوله:
-انتبهوا جيدا...اليوم عيدهم...تذكروا دائما أنهم مجرمون وقتلة.وتلاشت الكلمات
باردة لامعنى لها على قدمي الجندي الحارس, وأحس بالملل تجاه هذه الجمل التي ما فتئ
المسؤولون في المعتقل يردّدونها على أسماع الجنود...وكان يراها جلودا فارغة يحاول
قادته نفخ الروح فيها...غير أن كل ما كانوا يفعلون هو أن ينفخوا فيها ريحا...لذلك
كانت تكفي مسكه من عقل ليدرك الإنسان الفرق بين الجلد الذي فيه صاحبه, والجلد
المملوء هواءا أو نخالة...
وبدأت أصوات الذكر تتناقض, وتهدأ...حتى صمتت, وحل محلها هذا العناق والتحيات,
والإشارات بين مسجوني
الأقفاص:
-(تقبل الله منّا ومنكم)..(غفر الله لنا ولكم).
كان سليمان في تلك اللحظات يحاول جاهدا الفكاك من عالمه ذلك, بحثا عن خلوة يغيب
فيها في عالم آخر...يرى فيه وجه أمه وأبنائه في صبيحة العيد هذه...
كان يريد السفر بفكره إلى هناك, يدخل عليهم الكوخ...يضمهم...ويقول لهم كلمة,تطمئن
قلوبهم المتعبة التي ناءت بالحمل وهدتها الصدمات...
وعادت إليه صورهم لآخر لحظة تركهم فيها...كانوا يتمسكون به, ويتعلقون بثيابه...وأخذ
من بينهم.
كانت يداه ممتدتين نحو أمه, يقول لها:
لا تقلقي سأرجع...اهتمي بنفسك وبالأولاد...
وكانت هي أيضا ترى أنه سيرجع...وماكان هنالك من سبب لاعتقاله أو قتله...فقد جاؤوا
معه إلى هذه القرية أيام الاحتلال الروسي...وجاهد جهاد من يرجو عزة الإسلام والدار
الآخرة...وأصيب مرات عدة...وكتبت له النجاة...وبعدها لزم بيته في هذه القرية, يدرس
أبنائها القرآن والسنة واللغة العربية...وفي خلواته ينظم الشعر...لذلك قالت له أمه:
سترجع ياولدي سترجع.
كان نباح الكلب حينها شديدا يثير نباح كلاب القرية كلهم...وكانت الليلة ليلة
غزاة...
ومر يوم ويومان وثلاثة ولم يرجع...وعرفت العجوز الطيبة أن الظلم لايحتاج إلى مبررات
أوأسباب ليقع...وإلا لما كان ظلما...
وحين بدأ اليأس من رجوعه يداخلها كما تداخل حبات الظلام ضوء المساء فتغبشه قالت
لنفسها:
ليتني قبّلته...أو ضممته...ليتني قلت له:
اتـرك عنوانـك يـاولـدي
أولمسـة كـفّـك فـوق يـدي
فغـدا أشـتاق ولـيس معـي
لليـالي الفرقـة مـن جلـد
كان إخوانه في الزنزانة يعرفون أنه يبحث عن لحظات هـدوء..وأنه الآن يتمزق في دروب
القصيدة بين وهادهـا ونجودها...ويحاول أن يدخل من سمّ الخياط مرة ومرة ليصنع
أبياته.لذلك رحموا عذابه ذاك...وهدأوا...يتأملونه في لحظات المخاض الصعب...لحظات
الإلهام...لحظات الميلاد وخروج القصيدة من رحم الوجع...
تنهد سليمان تنهيدة طويلة...ووضع القلم إلى جانبه...
-الحمدلله...
-ذكر أم أنثى ياسليمان؟
-بل, ألم يا أبا جابر...
-أتشنّف أسماعنا؟
-بل أعصر قلوبكم...
-وما يضر الشاة سلخها بعد ذبحها...
-اقرأ يا أخي...اقرأ...
ورفع الورقة أمام عينيه يتأملها...ليدخل في سمّ خياطها مرة أخرى...ومنذ دقائق كان
يحوّل وجعه إلى حروف...أما الآن فهو يحول الكلمات إلى صوت...بعكس ما فعله السومريون
الأوائل حين اكتشفوا الكتابه لأول مرة وحولوا أصواتهم المنطوقة إلى حروف يحفرونها
بأزاميلهم فوق الحجر...كان يتأملها منكسرة محبطة...تتوسد ذراعها المبلل بدموعها في
الكوخ القابع في البرد تحت الظلام...ليلة العيد...تتأمل الذّبالة الضعيفة لمصباح
الزيت...وهو يناديها من خلف المسافات:
-أطفئي المصباح نامي لن أعود...
فتقوم متهالكة تنفخ الشعلة الضعيفة...وتعود إلى فراشها كتلة متقطعة من جبل
الحزن...ويقرأ الفتى السجين لإخوانه هامسا:
أطفئي المصباح, نامي لن أعود ودعـيني الآن في نار القصيد
واتركـي كـأسـي بلاشـاي في كؤوس الغير إنّ اليوم عيد
تمنّـيني قريبا كـي تعيشـي ورغم أنّي ميّت خلف الحـدود
أمّ, ولتطوى ثيابي...خبّئيهـا خبّئي نعلي وسروالي الجـديد
وانقضي ماقد نسجت الأمس, انقضـي غزل انتظار لايفيـد
لست أدري مـا أقول...العمر
ليس لـي, آه سوى عمري
هل سأمضيه بلا قبلات أمّ
تنبت الـورد على صـخر
هكذا في الريح أبقى كجواد
راكض,أعيته عضات القيود
أضبط الوقع على قطرات
غير أنّي لست يأمّي شهيد
والمحطـات إذا جئت إليها
ذبحتني من وريـد لوريـد
فأنا المذبوح, لكن مادليلي؟!
ليس لي حق ولا عندي شهود
اسمعيني...مر عامان وعام
كلّمـا قلت (كفـى), جــاء
فاعذريني إن أنا ضاع جوابي
وضـعي اللـوم على سـاعي
ربما ضاعت حماماتي...احتمال
مثلما ضعت...وما ذاك بعـيد
إنني الآن أحس الكون سمّا
في خيـاط..ثقـب زرلا يزيد
فضعيني بين كفيـك كطير
أخـرجيني بين أكـوام الجليد
واسأليني... ولما لا تسأليني؟!
فرجـاء اسـأليني ما أريـد
اكسـري القوسـين حـولي...
وانقليني أنت للسّطر الجديـد
أو أنـا طير جـريح لايغنّـي
فاصنعي لي فوق منقاري نشيد
لاتقولي:عد سريعا ياصغيري
لا تقولي:عد أيا هذا العنيـد
فأنا صرت كبيرا مثل حزني
مثـل شـوقي واحتراقـي في
أزرع الظّـل على كلّ دروبي
ربما تنمو ظلالي كـــورود
غير أني دائما في كلّ صيف
أحصد المـزروع خطوات شريد
مـا تقولين؟ وما رأيك أمّي؟
مـا الذي أجنيه مـن هـذا
أأناديك؟ بماذا؟كـيف؟قولي...
ليس لي ياء وخـانتني المدود
كلما قلت:أعود اليوم,نادى
قدري: كلاّ وربّـي لن تعـود
كلما قدمت رجلا عدت عشرا
لا أجيد العود حقـا لاأجيـد
ربّمـا آتي, ولكن ليس وعدا
فأنــا لا أملـك الآن وعود
وما كان يملك نصف وعد فعلا..